يزدحم الكونجرس رقم 112 في تاريخ الولايات المتحدة بوجوه وأسماء العديد من الوافدين الجدد، وستكون الخطابة النارية إحدى سماته المميزة. فعديدون ضمن فيلق الأعضاء الجدد البالغ عددهم 100 عضو (90 في المئة منهم "جمهوريون") يرون أنهم انتخبوا من أجل هدف محدد هو "استرداد واشنطن". وليس هذا فحسب بل إن واحداً منهم هو "بن كوايل" (جمهوري -أريزونا) قد وعد "بتحطيم المكان وقلبه رأساً على عقب". وبصرف النظر عما يقوله "كوايل"، فإننا سنعرف عما قريب ما إذا ما كان هذا الفيلق من الأعضاء الجدد سيغير واشنطن، أم أنها هي التي ستغيره. فالتأقلم على الحياة في عاصمة البلاد، والتحول إلى واحد من مواطنيها الأصليين، ليس بالشيء الطيب في حد ذاته، خصوصاً إذا ما كان ذلك يعني فقدان المشرعين لتماسهم المباشر مع نبض الشارع، وإقامتهم لعلاقات صداقة مشبوهة مع أعضاء جماعات الضغط، أو تحولهم هم أنفسهم إلى فاسدين. بيد أن التأقلم ثقافيّاً مع أجواء واشنطن السياسية، قد يكون أمراً صحيّاً أيضاً، إذا ما ساعد على الانتقال من الخطابية النارية المميزة للحملات الانتخابية، إلى ذلك الإدراك الذي ينبغي أن يتوافر لدى كل عضو كونجرس جديد حول ضرورة الامتثال لضرورات العمل فيه، وأهمها على الإطلاق الاستعداد للتوصل إلى تسويات، وعقد صفقات في القضايا الخلافية، من أجل تحقيق مصلحة الشعب الأميركي في نهاية المطاف. وسيضطر القادمون الجدد إلى الكونجرس -نصفهم على الأقل من المنتمين لحركة "حفلة الشاي"- إلى فهم حقيقة أن التسويات والصفقات ليست علامة ضعف بل هي علامة قوة في الحقيقة، خصوصاً في حالة انقسام الحكومة بسبب وجود رئيس من حزب غير الحزب الذي تنتمي إليه أغلبية الكونجرس. والجدير بالذكر في هذا المقام أن بعض هؤلاء الأعضاء الجدد قد أعلنوا أنهم لن يسمحوا برفع سقف الدَّين القومي مهما كانت الظروف. ولكن ينبغي أن يعلموا أنه إذا ما صوت عدد كبير منهم بالرفض ضد الاقتراح الذي سيقدمه أوباما في هذا الشأن خلال الأشهر القليلة القادمة كما هو منتظر، فإن الحكومة ستضطر إلى إغلاق أبوابها والتوقف عن النشاط، فعلًا لا قولاً. وسيكون ذلك عملاً ضارّاً للغاية، وذا آثار كارثية من الناحية الاقتصادية، وليس عملاً بناءً كما قد يظن البعض من هؤلاء الأعضاء. وفي المجمل فإن أعضاء الكونجرس (المستجدين) التابعين للحزب "الجمهوري" ينبغي أن يطرحوا من أذهانهم فكرة أنهم قد جاءوا إلى واشنطن من أجل وضع حد لمبدأ التسوية والتوافق على المسائل الخلافية، لأن عليهم أن يفهموا جيداً أن التسويات والمفاوضات هي جوهر الديمقراطية ومحك الحكم على أية حكومة تدعي بالتالي أنها ديمقراطية؛ وأن رفض التسويات والمفاوضات من الممارسات المعروفة عادة عن الحكومات الفاسدة والسلطوية، التي يمكن أن نرى نماذج لها في مناطق مختلفة من العالم حتى في أوروبا ذاتها. وكما يقول "مارك ويلر" المحامي "الجمهوري" الناجح وعضو إحدى جماعات الضغط:" لا يمكنك أن تكون حزبيّاً ثم تكتفي بقول كلمة: لا". وهذا الرأي يؤيده أيضاً "ديف ليفينثال" من "مركز السياسات المتجاوبة" المتخصص في متابعة موضوع إنفاق الأموال في الحملات الانتخابية الذي يقول: "إذا ما أراد أعضاء الكونجرس الجدد أن يحققوا أي شيء، فإنهم بحاجة أولا إلى فهم حقيقة كون التنافس في الانتخابات، والعمل في التشريع، أمرين مختلفين أشد الاختلاف". ولعل الشيء الأكثر أهمية في هذا الصدد أن أعضاء حركة "حفلة الشاي" الذين دخلوا الكونجرس حديثاً، ينبغي أن يفكروا في الشيء غير المفكر فيه؛ وعليهم أيضاً أن يدركوا أن ما يقولونه بشأن تقليص عجوزات الموازنة لن تكون له مصداقية، إذا لم يكونوا راغبين حقاً في إجراء بعض التخفيضات الكبيرة في ميزانية "البنتاجون". والولايات المتحدة كما هو معروف تنفق 700 مليار دولار كل عام على الدفاع، في حين أن الصين تنفق 80 ملياراً، وروسيا تنفق 40 ملياراً فقط! ألا تدعو هذه الأرقام في حد ذاتها هؤلاء الأعضاء إلى التفكير في إجراء خفض جدي للنفقات الدفاعية؟ ومن المجالات الأخرى التي يجب أن تستهدفها محاولات "الجمهوريين" الجدد للتخفيض ذلك المجال الفضفاض المعروف بـ"بناء الأمم" وهو مجال بذلت فيه إدارات كلينتون وبوش وأوباما جهداً مضنيّاً، وأموالاً طائلة، ودماً غزيراً. والمؤسف أن ما حدث مع مستجدّي الحزب "الجمهوري" هو أنهم اكتشفوا بعد قدومهم لواشنطن بأيام قليلة، ذلك الشيء الذي يكتشفه كل وافد جديد للكونجرس: أن الأهم هو جمع الأموال، لا غير. ويمكن القول هنا إن حياة عضو الكونجرس هي سلسلة متواصلة من جمع الأموال كما يقول "ويلر" الذي أشرت إليه سلفاً حيث يستطرد مشيراً إلى أعضاء الكونجرس: "إنهم يكرهون الشحاذة ولكنهم يدركون أن الأمر كله عبارة عن جمع أموال وحفلات إفطار عدة مرات في الأسبوع وحفلات عشاء في معظم الأمسيات". فالأولوية القصوى لكل وافد جديد إلى الكونجرس، هي تعويض النفقات التي أنفقها في الحملة الانتخابية، ثم جمع المزيد من الأموال لمواجهة مصاريف الحملة الانتخابية التالية (حملة 2012 في حالتنا هـذه). وقد أخبرني أحد العاملين السابقين في مجلس الشيوخ أنه سمع ذات يوم مديراً ماليّاً كبيراً في أحد بنوك "وول ستريت" وهو يقول متباهياً: "إن جميع السيناتورات قابلون للبيع والشراء... وإن دفع الأموال هو الوسيلة الوحيدة لضمان اهتمام أعضاء الكونجرس بشرط أن يتم ذلك بسخاء كبير". ولاشك أن جميع أعضاء الكونجرس الجدد يعرفون ذلك قبل أن يأتوا إلى واشنطن، وهم مستعدون له من جديد. وإذا ما أراد الناخبون الأميركيون "استرداد واشنطن" حقاً، فعليهم أن يدركوا أنه مطلوب منهم ما هو أكثر من معاقبة الحزب الموجود في السلطة كل عامين سواء أثناء الانتخابات الرئاسية أو أثناء انتخابات التجديد النصفي، وأن عليهم في المقام الأول أن يجدوا الوسائل التي تضمن إبعاد جماعات المصالح المتمترسة حتى لا تدوس بأقدامها المشرعين الجدد. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"